الثلاثاء، 4 فبراير 2014

ملة ابراهيم

ملة ابراهيم


(ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه)


الحمد لله رب العالمين العظيم، الحليم الرحيم، لا نحصي ثناء عليه كما أثنى سبحانه على نفسه. والصلاة والسلام على النبي الأمين المبعوث رحمة للعالمين. القائل (بعثت بالحنيفية السمحة).

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. ربنا حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. آمين. ادع بهذا الدعاء مخلصا من قلبك. فإن الهداية شأنها عظيم، لذلك أنعم الله علينا بأن جعلنا نسأله الهداية والإعانة على طريق الحق سبع عشرة مرة في اليوم وأكثر وذلك بقراءتنا لسورة الفاتحة في الصلاة. وجعلها بعد حمده والثناء عليه، ثم جعل بعدها البراءة من الشرك والكفر والضلال. في سورة قصيرة المبنى كبيرة المعنى. فسبحان من أنزلها وأنعم على المسلمين بها.

أما بعد فهذا مختصر لمفهوم (ملة ابراهيم). هذه الملة التي أمر الله تعالى باتباعها وكرر ذكرها في القرآن هدى ونورا لنا نقتدي به لنفوز بجنانه.

وما هذه السطور إلا مختصر ملخص لما خطته أقلام شيوخنا العلماء المجاهدين، وليس للعبد الفقير من جهد فيها سوى النسخ والنقل.




-فصل في أهمية معرفة ملة ابراهيم-

إن الله تعالى لما انزل القرآن جعله تبيانا لكل شئ وهدى ونورا للمؤمنين. فمن آمن أن لا إله إلا الله فعليه أن يعرف ماذا يريد الله منه لكي يستطيع أن يصف نفسه بأنه مؤمن بالله وشاهد بشهادة التوحيد التي هي الركن الأول من أركان الإسلام.

إن دعوة الانبياء كانت واحدة وهي توحيد الله تعالى بالعبادة، وتوحيده بحق الحاكمية وتشريع القوانين لأنه هو الخالق العليم. وهذا هو معنى شهادة التوحيد التي هي الركن الاول من أركان الإسلام. أما مجرد الكلمة فحتى السماعات الالكترونية واجهزة الراديو تستطيع ترديدها.

وقد أجمع علماء أهل السنة على أن الإيمان بالله قول وعمل، فالذي يقول لا إله إلا الله ثم لا يطيع الله تعالى في أمر الصلاة أو الزكاة فهو غير صادق في قوله، فأما من لم يطع الله في أمر الصلاة يقام عليه الحد الشرعي المعروف. وأما من يشهد أن لا إله إلا الله لكنه يمنع الزكاة فيكفينا موقف الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سير الصحابة جيوشا لتحاربهم وتقتلهم لأنهم ارتدوا عن دين الله بموقفهم هذا وكفروا بأفعالهم المخالفة لما يقولونه بلسانهم. وبالتالي صار قتالهم واجبا لإعادة شريعة الله إلى مكانها الطبيعي وهو موقع الحكم.

ومن حكمة الله تعالى أنه قضى أن الإيمان يقتضي الابتلاء والاختبار. فمن آمن فعليه الصبر على الابتلاء. وفي النهاية الجميع سيموت ويذهب إلى الله تعالى فالسعيد من صبر في تلك اللحظات المنقضية والشقي الخاسر هو من لم يصبر في تلك اللحظات القصيرات، فيالطول حسرة الخاسرين.

وقد أنعم الله على المؤمنين بالقرآن الكريم يهديهم ويرشدهم إلى طريق الإيمان والفوز بالجنان، ودعوة القرآن للمؤمنين الراغبين في الفوز والنجاح إلى اتباع ملة ابراهيم تكررت في اكثر من موضع مما يدل على اهميتها لك كمسلم.




-فصل-

لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم جعل سيرته الشريفة هدى يسير عليه الراغبون في الجنان والنجاة من النيران. من أجل ذلك تعرض عليه الصلاة والسلام لمواقف كثيرة تأذى في بعضها في سبيل الله حتى تعرض للضرب وسال دمه الشريف بأبي هو وأمي فداه كل عزيز. ولا يمكن فهم القرآن من غير معرفة السيرة النبوية لأنها تفسر القرآن الذي كان ينزل موجها في المواقف المختلفة في حياة الامة العاملة لاقامة دولة الاسلام وحكم الله في الارض. لذلك نرى انه لا يمر بالانسان موقف في حياته الا وفي القرآن والسنة توجيه وهدي يهديه الى معرفة حقائق الامور وكيفية التصرف معها.

وإن كان طريق النجاة والجنة ممكنا بغير تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المواقف لكان كافيا أن ينزل الله تعالى ورقة فيها جدول من خانتين (افعل و لا تفعل) . في الخانة الاولى الدعوة لفعل مجموعة من الفضائل والعبادات. وفي الخانة الثانية النهي عن المكروهات والمحرمات. ولما كان هناك داع ليعيش عليه الصلاة والسلام فقيرا محاربا مهاجرا من بلده ويتعرض لتلك المحن. إنما عاش تلك الحياة لنتعلم نحن كيف يدخل الانسان الجنة ونقتدي به ونفعل كما فعل. فإن كان عليه الصلاة والسلام قد عمل في التجارة او الزراعة وعقد بعض الدروس الدعوية في اوقات فراغه من العمل (كما يفعل كثير من المسلمون اليوم) لم تكن دولة الاسلام لتقوم وبالتالي لم يقم الجهاد ولم ينتشر الاسلام ويصل الينا. وهكذا ان لم نتبع نحن هذا الطريق فإن الله تعالى يحفظ الاسلام بان يذهب بنا ويأتي بقوم يسيرون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ونخسر نحن بعد موتنا كل لحظة لم نستغلها في خدمة الدين. فهل ينفع بعد ان يقول الانسان انه كان مشغولا بمعيشته عن الدين. ولماذا يريد ان يعيش اصلا هل ليقضي شهوته للطعام والشراب والمسكن والملبس ويستمر بالحياة الى ان تنتهي لحظاته ثم يذهب كما ذهب غيره ويندم؟ أو أن الحياة جسر يعبر عليه الى الآخرة والجنة (يقول يا ليتني قدمت لحياتي). فالعاقل من سعى من اجل معيشته الباقية كما يسعى اهل الدنيا لمعيشتهم الفانية القصيرة الزائلة. ولا يتناقض هذا مع وجوب السعي في الكسب وتحصيل اسباب العيش ولكن المقصود هو ان لا يكون هذا هو الهدف الاسمى لدى الانسان وتكون حياته كلها موجهة لخدمة ذلك. إنما الرواتب والمأكل والملبس اسباب يستعان بها على مواصلة الطريق كالصيانة الدورية للسيارة حتى توصل صاحبها الى المكان المطلوب دون أعطال. وليست الصيانة هدفا في حد ذاته.

فالإسلام يطلب من الإنسان أن يؤمن بالله تعالى ويتبع الهدى الذي جاء به وتكون كل لحظات حياته مسخرة لذلك، ويدعو إليه ويعمل لتحكيمه في الأرض ويكون هو وما يملك مسخرا لخدمة ذلك، ويصبر على ما يلقى في سبيله، أما مجرد أداء العبادات واجتناب المحرمات فهو جزء من الاسلام وليس هو الاسلام المطلوب. قال تعالى ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).

من أجل ذلك تكرر في القرآن ذكر قصة خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. حيث كانت حياته رحلة لإعلان التوحيد وحاكمية الشريعة، ورفض ما يناقض ذلك من قوانين وعادات عند البشر، وألقي في النار في سبيل ذلك الإعلان الصريح دون أن يهز ذلك من ثباته شيئا. لأنه كان مؤمنا أن هذا الطريق خير له من أن يعيش حياة غالب أوقاتها لهاث وراء المعيشة وشؤون الدنيا ثم في النهاية تنتهي وتذهب ويقتنع بمكان عادي في أسفل الجنة أو أن يقع في النار لبضع سنوات من اجل نقصان حسناته عن الحد المطلوب للنجاة ورفض الجميع مساعدته بحسنة واحدة ينجو منها حتى والداه. وفي الفصل الاخير من هذه المقالة زيادة جيدة في هذا الباب.




-فصل في دعوة القرآن للمسلمين إلى اتباع ملة ابراهيم-

يقول تعالى عن ملة إبراهيم: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [سورة البقرة: 130].

ويقول سبحانه: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [سورة النحل: 123]

ويقول تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده...} [الممتحنة: 4]، إلى قوله تعالى: {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتولّ فإن الله هو الغني الحميد} [الممتحنة: 6]


ويقول سبحانه ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) البقرة/135. )

ويقول سبحانه (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران

 وقال عز وجل :

( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران/95.

وقال تعالى :

( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) النساء/125.

وقال تعالى :

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الأنعام/161-163.

وقوله تعالى :

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) النحل/121-123.





-فصل-
ما هي ملة ابراهيم؟


كما تكرر في القرآن الكريم الأمر باتباع ملة ابراهيم، فقد كرر لنا الله تعالى كيف أن نبيه ابراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قد كان يعلن في صراحة ووضوح براءته من الشرك والطاغوت والحكم الجاهلي المبني على غير شريعة الله.

فنبي الله ابراهيم وقف وأعلنها صريحة في موقف جعله الله قدوة لنا، وأخبرنا بأنه قدوة يجب الاقتداء بها قبل أن يقص علينا الموقف {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده...}.

هذه هي ملة ابراهيم . مفهوم كامل لشهادة أن لا إله إلا الله بجانبيها الاثنين:

- اخلاص التوحيد لله وحده.
- والبراءة من الشرك واهله.

وينبني على ذلك موقف المسلم من موالاة أو معاداة. فمن لا يؤمن بالله تعالى كما أمر الله أن يكون الإيمان، فهذا قد أساء الأدب مع الله تعالى وجريمته أعظم من جريمة السارق والزاني والقاتل وكل أرباب الفسوق والفجور. من أجل ذلك استحق الخلود في نار جهنم. وأصبحت محاربته وقتاله واجبا على المسلم جهادا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة هذا الكافر النجس هي السفلى.

وتتمثل العبودية لله وحده في التصور الاعتقادي، كما تتمثل في الشعائر التعبدية، كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء.

فليس عبدا لله وحده من لا يعتقد بوحدانية الله سبحانه: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون، وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون} [النحل: 51 - 52].

ليس عبدا لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحد غير الله - معه أو من دونه: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 162 - 163].

وليس عبدا لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله، عن الطريق الذي بلغنا الله به، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21].
ويقول سبحانه {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به...}، إلى أن يقول: {... فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 60 - 65].

{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7].

ولا يمانع الكفار في أن يقوم أي شخص كان بعبادة الله تعالى، لكنهم يمانعون أن يعلن المسلم أن أربابهم وشرائعهم الحاكمة من دون الله هي طواغيت باطلة يجب ان تزال ليقام مكانها حكم الله وعبادته وحده سبحانه. بمعنى آخر لا يعجبهم أن يقرأ المسلم (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) و(من لم يحكم بما انزل الله فؤلئك هم الكافرون).

وعلى هذا الاعلان الصريح الكامل دارت حياة نبي الله ابراهيم، وحياة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم حياة الصحابة من بعدهم، وحياة التابعين ومن تبعهم بإحسان.

فمن وجه لحظات حياته لإعلان هذا المبدأ العظيم فعليه أيضا اعلان البراءة من الشرك واهله وبيان كونه باطلا بأصرح العبارات. كما فعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله نبي الله ابراهيم عليهما الصلاة والسلام.




- فصل في جانب الموالاة والمعاداة في ملة ابراهيم -
" وقد يظن ظان أن ملة إبراهيم هذه تتحقق في زماننا هذا بدراسة التوحيد، ومعرفة أقسامه وأنواعه الثلاثة معرفة نظرية وحسب.. مع السكوت عن أهل الباطل وعدم إعلان وإظهار البراءة من باطلهم.

فلمثل هؤلاء نقول: لو أن ملة إبراهيم كانت هكذا لما ألقاه قومه من أجلها في النار، بل ربما لو أنه داهنهم وسكت عن بعض باطلهم ولم يسفه آلهتهم ولا أعلن العداوة لهم واكتفى بتوحيد نظري يتدارسه مع أتباعه تدارساً لا يخرج إلى الواقع العملي متمثلاً بالولاء والبراء والحب والبغض والمعاداة والهجران في الله. ربما لو أنه فعل ذلك لفتحوا له جميع الأبواب، بل ربما أسسوا له مدارس ومعاهد كما في زماننا يدرس فيها هذا التوحيد النظري.. ولربما وضعوا عليها لافتات ضخمة وسموها: مدرسة أو معهد التوحيد، وكلية الدعوة وأصول الدين.. وما إلى ذلك.. فهذا كله لا يضرهم، ولا يؤثر فيهم ما دام لا يخرج إلى الواقع والتطبيق.. ولو خرجت لهم هذه الجامعات والمدارس والكليات آلاف الأطروحات ورسائل الماجستير والدكتوراه في الإخلاص والتوحيد والدعوة.. لما أنكروا ذلك عليها، بل لباركوها ومنحوا أصحابها جوائز وشهادات وألقاباً ضخمة، ما دامت لا تتعرض لباطلهم وحالهم وواقعهم وما دامت على ذلك الحال الممسوخ."



يقول أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله تعالى: (إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد ولا في ضجيجهم بلبيك ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة، فاللجا اللجا إلى حصن الدين والاعتصام بحبل الله المتين، والانحياز إلى أوليائه المؤمنين، والحذر الحذر من أعدائه المخالفين، فأفضل القرب إلى الله تعالى، مقت من حاد الله ورسوله وجهاده باليد واللسان والجنان بقدر الإمكان) أهـ من الدرر السنية - جزء الجهاد ص238.

 وفي مقابل هذه البراءة من الشرك وأهله.. هناك أيضاً: (موالاة دين الله وأوليائه ونصرتهم ومؤازرتهم والنصح لهم وإبداء ذلك وإظهاره) حتى تتآلف القلوب وتتراص الصفوف، ومهما عنّفنا إخواننا الموحدين المنحرفين عن جادة الصواب ومهما شدّدنا في النصح لهم ونقد طرائقهم المخالفة لطريق الأنبياء.. فالمسلم للمسلم كما يقول شيخ الإسلام كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وربما احتاج إزالة الوسخ أحياناً إلى شيء من الشدة التي تُحمد عاقبتها، لأن المقصود من ورائها الإبقاء على سلامة اليدين ونظافتهما.. ولا نستجيز بحال من الأحوال التبرؤ منهم بالكلية، لأن للمسلم على أخيه حق الموالاة التي لا تنقطع إلا بالردة والخروج من دائرة الإسلام.. وقد عظّم الله سبحانه من شأن هذا الحق فقال: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73]. والمسلم المنحرف إنما يتبرأ من باطله أو بدعته وانحرافه مع بقاء أصل الموالاة.. ألم تر أن أحكام قتال البغاة وأمثالهم.. تختلف مثلاً عن أحكام قتال المرتدين... ولا نقر أعين الطغاة ونفرحهم بعكس ذلك أبداً، كما يفعل كثير من المنتسبين إلى الإسلام ممن اختل لديهم ميزان الولاء والبراء في هذا الزمان، فبالغوا في البراءة والشماتة من مخالفيهم الموحدين والتحذير منهم بل ومن كثير من الحق الذي عندهم وربما على صفحات الجرائد النتنة المعادية للإسلام والمسلمين ناهيك عن إغراء السفهاء والحكام بهم وبدعواتهم.. حتى ليُشارك كثير من هؤلاء الدعاة أولئك الحكام بالقضاء عليهم وعلى دعواتهم بإلصاق التهم الباطلة بهم أو ترقيع الفتاوى للطواغيت لقمعهم، كأن يقولوا عنهم: بغاة أو خوارج أو أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، إلى غير ذلك.. وأعرف كثيراً ممن يفرح بوقوع من يخالفهم من المسلمين بأيدي الطغاة، ويقولون: (يستاهل) أو (زين يسوون فيه) إلى غير ذلك من الكلمات التي ربما تهوي بأحدهم في جهنم سبعين خريفاً من حيث لا يدري وهو لا يُلقي لها بالاً."





-فصل في ما يجب ان يفعله المسلم ليكون من اتباع ملة ابراهيم-

على المسلم ان يقرأ القرآن الكريم واحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وهو يشعر نفسه أن هذه رسائل من عند الله تعالى إليه وأنه مأمور بتنفيذ ما فيها مهما كانت المصاعب والتكاليف. والصبر على ذلك. واحتساب الاجر والثواب الذي أعده الله تعالى لمن فعل ذلك. والخوف من عقاب الله تعالى الذي ينتظر المقصرين والمخالفين.

ولتحقيق ذلك فعليه أن يستعمل نعمة العقل ليهتدي إلى كنوز القرآن الكريم ونور السنة النبوية الشريفة وفوائد ما كتبه العلماء. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف (الفهم) بأنه من علامات رضا الله تعالى عن العبد (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) والفقه هو الفهم. أما الحفظ فحتى الاجهزة تستطيعه!




- فصل في توضيح تساؤلات حول قضية ملة ابراهيم -

كما أن المسلم مأمور بإبداء العداوة والبغضاء للكفر والشرك بصوره المختلفة. متبعا هدي الأنبياء مع أقوامهم كما ذكر الله لنا في القرآن الكريم. فالمسلم مأمور أيضا بالدعوة وخدمة الدين. وقد يحتاج الى شئ من احسان المعاملة مع الكافر وفق الضوابط والحدود الشرعية، أو إلى اخفاء دينه وعقيدته في بعض المواطن لسبب معتبر شرعا. فهذا كله لا ينافي وجوب العداوة القلبية لكل ما هو كفر بالله. كعبادة الاصنام، والحكم بغير ما انزل الله، ومعاونة الجيوش الكافرة على المسلمين، وتحليل الحرام. ودعاء غير الله. ووجوب اعلان المبدأ بأقصى ما يستطيع الانسان وتحمل التكاليف في سبيل ذلك.

فالاحسان الى الكافر وفق الشرع لا يلزم منه محبته او مداراة عقيدته الفاسدة. فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا اكثر الناس احسانا الى اقوامهم واعلى البشر اخلاقا فراجع اقوالهم لاقوامهم في القرآن الكريم في جانب العقيدة لتعرف كيف ان اعلان المبدأ لم يكن فيه محاباة لأحد.

أما اخفاء المعتقد فهذا مسموح به في اطر ضيقة وفقا لضوابط شرعية، كأن يكون هناك من يصدع بالحق والاعتقاد فيخفي الآخرون الامر لحماية انفسهم من خطر مؤكد كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري بكتمان ايمانه حتى يظهر الاسلام كما في حديث البخاري. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قائما بالواجب ومتحملا للاذى وكان ابو ذر رضي الله عنه معرضا لخطر مؤكد ان هو اعلن ايمانه الجديد. فكان كتمانه غير مستوجب لاختفاء العقيدة والمبدأ عن العلن. فسمح له بالكتمان. ومع ذلك فإن أبا ذر رضي الله عنه اتبع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وصدع بالحق واعلنه مرتين ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول بعض الناس اليوم (انك قليل الحكمة وجلبت علينا المصائب والعداوات وغضب القوى الدولية وانت اخطر على الاسلام من اعداءه). ولم يخذله بعد أن صدع بالحق وتعرض للضرب حتى كاد يموت رضي الله عنه.
 وهاهنا اشارة ملفتة وهي انه لولا ان اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد جهروا بالدعوة والحق وعابوا آلهة الكفار وكفرهم وقوانينهم الوضعية لما كانت قريش اضطهدت المسلمين. فهم اصلا اضطروا للتخفي او الهجرة بسبب وجود الاعلان الواضح الذي لا يقبل المساومة (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) (واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك).

 والاستضعاف المقصود هنا ليس هو اقل ابتلاء قد يصيب الانسان فيتصور نفسه صاحب رخصة، إنما يجب الصبر والثبات ومواجهة المصاعب والابتلاءات وبغير ذلك لا يظهر الدين وهذا هو طريق الانبياء الذين واجهوا اقوامهم كما قص علينا القرآن الكريم.

ونبي الله ابراهيم عليه وعلى نبينا ازكى الصلاة والسلام في بعض الحالات قام بخدمة المبدأ العظيم دون الاصطدام المباشر بأعداء الملة، فلم يذهب لتحطيم الأصنام أمام عبادها مواجها لهم، بل حطمها في غيابهم، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، أسقط الصنم عن سطح الكعبة ليلا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهاجر عليه الصلاة والسلام سرا من مكة إلى المدينة، لكن أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يخفون موقفهم الواضح من الطواغيت والشرائع التي تعبد وتحكم من دون الله. فكان الاعلان الناصع الواضح بإخلاص الدين لله ولو كره الكافرون، لا يخافون في الله لومة لائم.


أما عوام المسلمين الذين يجهلون بعض الاحكام الشرعية ويقعون بالتالي في امور منافية لكمال التوحيد مثل الانتخابات التي تعطي حق التشريع لبشر غير الله تعالى، فهؤلاء لا يندرجون تحت بند العداوة اذ لا يصح تكفير المسلم حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع ويحكم بذلك اهل العلم المعتبرون.


ولا يتنافى مبدأ علنية الدعوة مع الاخذ باسباب الكتمان والسرية في ما يخص تنظيم العمل الذي يهدف الى نشر الدعوة وخدمتها ومحاربة الطواغيت. فكل له مكانه المناسب. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو علنا لكنه كان يلتقى بالمؤمنين سرا ليعلمهم احكام الدين في دار الارقم حماية لهذا الاجتماع من تسلط الكفار. وقد وقع الخلط اليوم عند بعض الناس فأصبح يخفي عقيدته كما يخفي اعماله.

يقص علينا الشيخ عبدالله عزام رحمه الله كيف أن شخصا قال له: لقد عملت موظفا مع شخص آخر لسنة كاملة ولم يعرف ما هو توجهي. فقال له الشيخ: بارك الله فيك، ذلك يعني انك لم تقل كلمة واحدة في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر طوال تلك السنة. (والاخ فرحان على نفسه حاسب عامل انجاز عظيم!)

 فالمبدأ الذي يؤمن به المسلم يجب اعلانه باقصى الاستطاعة والثبات عليه. وكما قيل: (إذا تكلم العالم تقية والجاهل بجهله فمتى يظهر الحق؟). وإذا لم يظهر دين الله وتوحيده العملي والاعتقادي للناس.. فأي ثمار تلك التي ينتظرها ويرجوها الدعاة؟ إن انتظار لحظة مريحة لإظهار الدعوة دون التعرض لأذى مجرد وهم. فطريق الدعوة لا بد فيه من وجود عدو محارب للحق. والجهاد ضد هؤلاء ماض الى قيام الساعة بالنفس والمال واللسان واليد وكل وسيلة. ومن تلبيس ابليس على بعض الدعاة أصلحهم الله انهم اصبحوا يعتبرون احتمالات وظنون وقوع الاذى اسبابا كافية لاخفاء العقيدة الصافية الكاملة السليمة. أما السرية في تنظيم الجيوش واعمال الافراد وتحركاتهم فهذه لها مكانها المناسب الذي تطبق فيه.فلا تناقض ولا نخلط بين الامرين.




- فصل في تكاليف اتباع ملة ابراهيم وفضيلة الصبر عليها -

أما تحمل تكاليف اتباع ملة ابراهيم، وان تكون حياة المسلم كلها لله تعالى رضي من رضي وسخط من سخط، فهذه سيواجه المؤمن بها (المكاره) التي حفت بها طريق الجنة، وقد واجه الصحابة الكرام ذلك فاستحقوا رضوان الله، فطوبى لمن سار على دربهم واقتفى هديهم المستمد من نور الوحي الإلهي النازل على محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا أبوعبيدة بن الجراح قتل أباه من أجل الإسلام. وهذا عمر بن الخطاب قتل خاله من أجل الإسلام، وهذان شابان عمرهما 16 عاما خرجا مجاهدين في سبيل الله فقتلا أبا جهل، أما أبوبكر الصديق رضي الله عنه فقد كان مستعدا لقتال العرب وحده عندما ارتدوا عن دين الاسلام وكفروا بالله بسبب تعطيلهم لفريضة الزكاة. وقد اقتدى الصحابة في ذلك بنبي الله ابراهيم وساروا على ملته (وما كان استغفار ابراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن ابراهيم لأواه حليم). وليستعن الانسان على صعوبات الطريق بما ورد في الفصل الاخير من هذه المقالة وبالله التوفيق وهو سبحانه الموفق والمعين.

وفي قصة موسى مع فرعون.. بعد أن أرسله الله إليه وقال: {فقولا له قولاً ليّنا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44].. فقد بدأ معه بالقول اللين استجابة لأمر الله فقال: {هل لك إلى أن تزكّى وأهديك إلى ربك فتخشى} وأراه الآيات والبينات.. فلما أظهر فرعون التكذيب والعناد والإصرار على الباطل، قال له موسى كما أخبر تعالى: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني أظنك يا فرعون مثبورا} [الإسراء: 102]. بل ويدعو عليهم قائلاً: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88]، فالذين يدندنون على نصوص الرفق واللين والتيسير على إطلاقها ويحملونها على غير محملها، ويضعونها في غير موضعها، ينبغي لهم أن يقفوا عند هذه القضية طويلاً، ويتدبروها ويفهموها فهماً جيداً.


وليعلم الإنسان أن المعاند والكافر المعلن للكفر والمدافع عنه عقبة ينبغي ازالتها من الطريق وإن أدى ذلك إلى تضرر أو موت عدد من الكفرة فذلك خير من بقاء العقبات في طريق دخول الناس الى دين الله واقامة شرع الله وحكمه في الارض. وهذا اصل فكرة الجهاد وتشريعه في الاسلام. فالدين لم يأت بهدف قتل الناس بل جاء رحمة للعالمين وجاء بما يزيل كل عقبة تعترض طريق هذه الرحمة وإن كان ذلك بالقوة. فيالسعادة من جعله الله سببا في قيام الدين وتحطيم العقبات بالجهاد ونيل فضيلة الاستشهاد.


وتذكر دائما قول الله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} [العنكبوت: 10]

ثم تذكر (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ )


وتأمل جيدا في قوله تعالى ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ،
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ،
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ،
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)


واعلم أيها الاخ الحبيب أن الخير والنعمة والنعيم ابتلاء تماما كما الفقر والمرض والصراع. قال تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، وترتبط هذه الآية بمعنى آية أخرى وهي: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم). فمن أراد الأجر العظيم الذي تتضاءل امامه كل الخيرات والشهوات التي ينعم بها اصحاب النعم فعليه ان لا يترك طريق الانبياء وملة ابراهيم عليه السلام خوفا من ذهاب نعمة او نقص نعمة فالذي رزقك هذه النعم امرك بأمور يجب ان تفعلها وان ظننت انك تخسر نعما انت فيها، وأعد لك حسن الجزاء على ذلك، فأنت الرابح ان سمعت واطعت. وانت خاسر ان توليت وتركت.




-فصل في فضح بعض اساليب الطغاة في صرف الناس عن ملة ابراهيم وخداعهم بإسلام ناقص تطبق فيه بعض اوامر الله ويترك البعض الاخر -


ذم الله تعالى في كتابه أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون بالبعض الآخر. فالإسلام كله من عند الله. والدارس لتاريخ الاستعمار الاوروبي الحديث يراه سلسلة متصلة في حلقة الحملات الصليبية الحاقدة. ولكن ما يميزها هو الاسلوب الجديد الذي توصلت اليه عقليات شيطانية. فبعد دراسة اسباب فشل الحملات الصليبية السابقة دراسة وافية والتفكير في سبل التغلب على اسباب الفشل، توصلت عقول بعض مجرمي الغرب الكافر الى ان الاسلام نفسه هو المشكلة، فنصحوا قومهم بابعاد الشعوب عن الاسلام، وبعد التجربة اكتشفوا ان نزع اصل الاسلام من نفوس المسلمين مستحيل، فعمدوا الى اختزال مفهوم العبادة في مجرد الاداء الاوتوماتيكي للشعائر التعبدية من صلاة وصيام. فأصبح المسلم يحس نفسه قد ادى المطلوب منه وان الاسلام ظاهر في البلد لمجرد وجود المساجد وامتناع الناس عن الاكل في رمضان وعدم وجود الاصنام. وهذا النقص في فهم الاسلام والالتزام به يدخل في قوله تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) . فالذي أمر بالصلاة والصيام قد أمر كذلك بأن تخصص وقتك ومالك للدعوة والجهاد وتضحي في سبيل ذلك وان وقفت الحكومات ضدك ووعدك اذا فعلت ذلك بجنان عظيمة الوصف فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وإنك ستموت في كل الحالات فاختر لنفسك وابن قبرك قبل ان يفوت عمرك.

وللطواغيت أساليب أخرى من أهمها اشغال الدعاة بالمعارك الجانبية وسحبهم للعب في ملعب اختاره لهم الخصم ورسم لهم حدوده. فالبرلمانات والانتخابات، والمؤتمرات والمنظمات والمظاهرات والجمعيات والأحزاب. وما يتبع ذلك من ضياع أوقات وتشتيت الاهتمامات يمينا ويسارا عن الهدف الاصلي لملة ابراهيم والسبب الرئيس الذي اصبح الداعية من اجله داعية. هل رأيتم لاعب كرة قدم يهتم بالحصول على رميات تماس وينسى ان عليه تسجيل الاهداف؟

والاستغفال لمن حضر باب السلطان او سمح لمبعوث السلطان وعبيده أن يحضروا بابه ويؤثروا على عقله بكلام خبيث ظاهره الخير واهدافه غير ذلك، فينشغل بالمهم عن الأهم، ويضيع وقتا وعمرا في ذلك والطاغوت فرح وسعيد.

وكذلك يخفي الطواغيت التاريخ وخاصة التاريخ الحديث والمعاصر القريب منا، فالجميع يعرف كثيرا من تفاصيل الدولتين الاموية والعباسية مثلا لكن من يعرف تاريخ الحملات الصليبية المتأخرة على العالم الاسلامي (الاستعمار الحديث) والخليج العربي وتاريخ الاستشراق وحركة التنصير وكيفية صناعة القرار والتأثير على نتائج الانتخابات وقرارات الكونجرس في امريكا (مراكز الابحاث والدراسات ووسائل الاعلام). ان اليهود يعرفون كل ذلك ويستغلونه جيدا لكن المسلمين مقصرون.



- فصل في ما يستعان به على اتباع ملة ابراهيم وتحمل تكاليفها -

ثمة ما يستعين به الانسان على السير في طريق الله تعالى. فأول العون توفيق الله الذي يكون لمن أخلص النية وجاهد نفسه وهواه والشيطان وتحمل تلك الابتلاءات التي تكون في اول الطريق لاختبار صبر الانسان وصدقه في انطلاقته الى الجنان والرضوان.

وتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ عونهم : المجاهدُ في سبيلِ اللهِ ، والْمُكَاتَبُ الذي يريدُ الأداءَ ، والناكحُ الذي يُرِيدُ العفافَ).

كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم اخراج الصحابة من عبادة الاصنام ووئد البنات إلى نور الإيمان وسمو الإسلام وأنشأ بهم أعظم دولة في التاريخ؟

إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن فعل طاعة كان ما بعدها أسهل عليه، ومن فعل معصية كانت الطاعة بعدها اصعب عليه، وعليه في هذه الحالة ان يجاهد نفسه ليبدأ بالطاعة فيسهل عليه ما بعدها، اما ان ترك نفسه دون مجاهدة فتصبح المعصية التالية اسهل والطاعة التالية اصعب فيضيع الانسان خلف خطوات الشيطان.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا دائما على زيادة الايمان بالله واليوم الآخر. فمن تعهد نفسه بدوام تذكيرها بالله تعالى وتعميق ايمانه بالله واليوم الآخر فيسهل عليه تقبل الاوامر الشرعية وتنفيذها مهما كانت التكاليف.

ونلاحظ أن الله تعالى قد قص علينا كيف تعرض الانبياء لمواقف تجعل ايمانهم عاليا جدا، مثل نبي الله ابراهيم (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) . ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حادثة الاسراء والمعراج.

ومن أعظم وسائل زيادة الإيمان: معرفة الله تعالى. بأسماءه وصفاته. والتفكر في عظيم قدرته ونعمه. والمداومة على دعاءه ومناجاته وحمده والثناء عليه سبحانه. وتدبر آيات عظمة الله تعالى في القرآن الكريم.

ومما يزيد الإيمان: كثرة ذكر الله تعالى، وكثرة الاستغفار، ومحاسبة النفس. وكثرة الدعاء وخاصة بالأدعية الواردة في القرآن والسنة. والتفكر في مخلوقات الله وقدرته. وعظيم نعمته وفضله. والتفكر والتأمل في معاني آيات القرآن الكريم (التدبر).

وكذلك تذكر الموت والقيامة والحساب ومعرفة ان هذه نهاية محتومة ستذهب اليها وتواجهها. وكذلك تذكير النفس بجزاء الصبر وهو
وهو ثلاثة:
أولها الصبر على تعلم العلم.
وثانيها الصبر على العمل بهذا العلم وتطبيقه
وثالثها الصبر على البلاء والتعب في طريق العمل بهذا العلم. وهو أنواع فمنه ما هو امتحان واختبار ومنه ما يقع بسبب ذنوب العبد فيكون من عاجل عقوبته في الدنيا لتمحى عنه تلك الذنوب فلا يعاقب عليها بعد موته. ومنه ما هو لرفع الدرجات. والله تعالى أعلم.

وجزاء الصبر عظيم وقد ذكر في نحو تسعين موضعا من القرآن الكريم، (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). جعلنا الله وإياك منهم وجميع المؤمنين والمؤمنات.


ومعرفة طبائع النفس الانسانية من اعظم ما يعين على التعامل معها وسياستها، ومن اجود ما كتب في ذلك ما كتبه الامام ابن القيم رحمه الله في كتبه (الفوائد، اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، زاد المعاد، صيد الفوائد). وغيرها.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (العاجز من عجز عن سياسة نفسه).




-فصل في العلم النافع -


هذا وإن ملة ابراهيم طريق العقلاء والعلماء، فإن لم تكن منهم فتشبه بهم، واحرص على القراءة فإنما يخشى الله من عباده العلماء، فيافوز وسعادة من حرص على ذلك. وفي زماننا يسر الله تعالى الاجهزة الحديثة وتسجيلات الفيديو والصوت، وما اكثرها على الانترنت وعلى موقع اليوتيوب وما اسهل الاستماع اليها في فترات الانتظار والسياقة والفراغ.

فأول القراءة ورأسها وأساسها القرآن الكريم، وتفسيره، ثم ان الحديث النبوي الشريف وحي من عند الله تعالى وقراءتها نور وهدى. ثم كتب العلماء العاملين المجاهدين الصادقين (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). منهم شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن قيم الجوزية الامام المبدع صاحب المؤلفات القيمة والكتب الثمينة المقسمة الى ابواب قصيرة لا يستغرق قراءة الواحد منها خمس دقائق. لكنها تحمل من الفوائد الشئ الكثير.

ثم يأتي الشيخ عبدالله عزام رحمه الله، وسيد قطب في مؤلفاته الجديدة التي صححها رحمه الله، وأخوه محمد قطب الذي أخذ المؤلفات المصححة لأخيه وشرحها في كتب رائعة.

ولن يجد المسلم خيرا من العلماء المجاهدين ليستمع ويقرأ إلى الهدى الذي هداهم إليه الله. (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)



-ختام-
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. ربنا حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. آمين. ادع بهذا الدعاء مخلصا من قلبك. فإن الهداية شأنها عظيم، لذلك أنعم الله علينا بأن جعلنا نسأله الهداية والإعانة على طريق الحق سبع عشرة مرة في اليوم وأكثر وذلك بقراءتنا لسورة الفاتحة في الصلاة. وجعلها بعد حمده والثناء عليه، ثم جعل بعدها البراءة من الشرك والكفر والضلال. في سورة قصيرة المبنى كبيرة المعنى. فسبحان من أنزلها وأنعم على المسلمين بها.


اللهم لك الحمد حمدا يوافي نعمك ويكافئ مزيدك. ويليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق